تعد "البدع" غرب مدينة تبوك، بشمال غرب المملكة، وعلى بعد 20 كيلومتراً من خليج العقبة من أبرز المواقع الأثرية في المملكة،
ووفق الأبحاث والكشوفات الأثرية سيكون لها حضور على خارطة الآثار والسياحة بالمملكة،
فهي كانت من أهم مدن الممالك العربية التي ظهرت في الألف الثانية قبل الميلاد،
واشتهرت هذه المدينة القديمة بأنها كانت عاصمة لحضارة مدين الشهيرة، الوارد ذكرها في القرآن الكريم.
ــــــــــــ
تعتبر محافظة البدع بمنطقة تبوك من المحافظات الغنية بالآثار والتي تبعد عن مدينة تبوك نحو 220كم غربًا،
وتبعد عن خليج العقبة 25كم شرقًا،
وتقع هذه المحافظة التي تنتشر فيها العديد من المواقع الأثرية التي ترجع إلى عدة عصور.
وتتوزع هذه الآثار في محافظة البدع الرابضة في بطن وادي عفال منذ عصور ما قبل التاريخ،
حيث اشتهرت البدع باسم مدين قبل البدع،
كانت من أهم مدن الممالك العربية التي ظهرت في الألف الثانية قبل الميلاد،
وقد شهدت البدع في عصر مملكة الانباط ازدهارا منقطع النظير في جميع المجالات،
حيث كانت البدع التقاء الطرق التجارية ما بين البتراء عاصمة الانباط وعينونا جنوب البدع على البحر الاحمر كأشهر موانئ مملكة الانباط،
ولكن تأثر ذلك الازدهار بشكل كبير بعد سقوط مملكة الانباط على يد الرومان عام 106م.
وفي عصر الإسلام عاد الازدهار إلى منطقة البدع مرة اخرى،
نتيجة طرق الحجاج المارة بها والامن الذي ساد الجزيرة العربية كافة. وقد ذكر البدع العديد من المؤرخين الذين وصفوا المنطقة تاريخيا وجغرافيا،
أمثال اليعقوبي وابن حوقل والبكري والاندلسي والجزيري وكثير من المؤرخين والمؤلفين، وأشهر من وصف البدع اليعقوبي،
وذكرها ايضا عدد كبير من الرحالة الغربيين أمثال ريتشارد بيرتون والويس موزين وهاري سان جورن فلبي،
والذي سمي عبدالله فلبي، وألف كتاب «أرض مدين»،
الذي يحكي عن المنطقة باستفاضة، كما ذكرها عدد من الكتاب العرب المعاصرين ابرزهم الشيخ حمد الجاسر والدكتور مسعد العطوي
وكذلك أحمد شرف الدين في كتابه المدن والاماكن الأثرية في شمال الجزيرة العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المواقع الأثرية بالبدع
تنتشر المواقع الأثرية في عدة اماكن في منطقة البدع واشرها على ضفتي وادي عفال المار بمحافظة البدع من الشمال إلى الجنوب بطول يزيد على 10كم،
ومن ابرز المعالم الأثرية هناك
مغاير شعيب،
وهي عبارة عن مقابر جماعية منحوته في الصخر، وتتزين بزخارف غاية في الجمال مشابهه لواجهات المغاير النبطية الموجوده في مدائن صالح بمحافظة العلا،
والبتراء في الاردن وتقع هذه المغاير على ضفة وادي عفال الغربية وتتكون من اربع مجموعات
الاولى تضم مقبرة واحدة كبيرة، والثانية وتضم سبع مقابر، والثالثة وتضم خمس مقابر، والرابعة تضم ثلاث مقابر.
أما واجهات هذه المقابر فمزخرفة وتشمل اعمدة وتيجان نبطية وشرفات، وجذبت هذه المقابر العديد من الرحالة والجغرافيين من المسلمين عند مرورهم بها،
ويظن البعض بأنها تخص قوم شعيب فاطلقوا عليها مغاير قوم شعيب لان البدع تقع في ارض مدين التي عاش فيها شعيب وقومه وابرز هؤلاء الرحالة الحميري،
والذي اعتبر هذا الموقع من اهم المواقع الأثرية بالبدع.
وتقع عدد من التلال المحاذية جنوب شرق المقابر، قريبا من سطح الجبل الذي تقع به،
وهي تلال أثرية ركامية واطئه تظهر فيها بقايا اساسات جدارية وعلى سطحها كِسَر فخارية وتمتد على مساحة نصف كيلو تقريبا وهي منطقة سكنية.
وكانت «مغاير شُعيب» مستوطنة زراعية من عام 100 ق.م، حتى عام 550م، حين أجبرت 20 سنة من الجفاف سكانها من الأنباط على الانتقال شمالاً للهلال الخصيب.
وقد وصف العلامة حمد الجاسر، رحمه الله، عبر مؤلفاته «البدع» مغاير شعيب،أنها عبارة عن واحة قديمة بعث الله فيها نبيه «شُعيب» إلى قومه مدين،
مبينا أن البدع تقع في أرض مدين،
وأن اسم الأيكة لا يزال يطلق على «واد النمير» رافد «وادي عفال»، مشيرا إلى أن أبرز المعالم الأثرية فيها الواجهات النبطية ب «المغاير»،
حيث كتبت عليها كثير من النقوش اللحيانية والنبطية، كما يوجد بها موقع لمدينة قديمة من الفترة الإسلامية المبكرة تعرف باسم «الملقطة»
المدن النبطية «المالحة»
وتقع هذه المدينة شرق التلال الركامية وتقع على ضفة وادي عفال الغربية وتمتد على مساحة تزيد على كيلو متر مربع
وبها بقايا جدران مشيدة باللبن واخرى مشيده بالحجر،
وتنتشر قطع الفخار النبطي على سطوح هذه المدينة وكثير من الاواني الفخارية التي تعود إلى الاول قبل الميلاد ويعرف هذا المكان باسم المالحة،
ويشير الكاتب الدكتور عبدالرحمن الطيب الانصاري وعدد من زملائه أن الآثار النبطية الظاهرة على السطح في هذا الموقع القريب من المقابر قد تخفي تحتها آثار
وحقائق تدل على العصور السابقة التي عاشتها البدع قبل العصر النبطي.
متنة الرديدةوتقع شرق المقابر على ضفة وادي عفال الشرقية ويتكون هذا الموقع من دوائر وحوائط حجرية متناثرة على قمة هضبة جبلية قليلة الارتفاع
وهذه الدوائر مبنية من الجرانيت ذي اللونين الاحمر والاسود والحجارة البازلتية
وقد عثر في الموقع على بعض الكسر الفخارية من الفخار المديني ووجد احد المواطنين شاهد قبر إسلامي كتب بالخط الكوفي من سبعة اسطر
ويشتمل على البسملة وسورة الاخلاص واسم صاحب القبر، وكتب فيه: «هذا قبر عبدالله بن وهب ابن نوبار»،
وهو ما ذكره الدكتور عبدالرحمن الطيب الانصاري في كتاب البدع تاريخها وآثارها.
بئر السعيدنييعد بئر السعيدني من أهم المواقع الأثرية في البدع واشهرها،
ويقع على الضفة الشرقية لوادي عفال في مواجهة المدينة النبطية على الضفة الغربية محفورة بطريقة النقر في الجبل وينزل اليها بدرج من الحجر،
وحفرت على نمط الابار النبطية في مدائن صالح وبئر سيسر في سكاكا الجوف،
وقد تحدث عن هذه البئر الكثير من المؤرخين والجغرافيين والرحالة الذين مروا على هذه المنطقة
ودرج على نهج هؤلاء المؤرخين والرحالة بعض الكتاب المهتمين بالآثار، ويعتقد هؤلاء أن بئر السعيدني هي التي استقى منها موسى لبنات شعيب عليهما السلام،
لذا يطلقون عليها اسم بئر موسى، وهذا الامر غير مؤكد ولكن المؤكد انها بئر قديمة جدا،
قد ما يرقى لتلك الحقبة الزمنية، وقد حظيت بئر السعيدني باهتمام الولاة والحكام المسلمين على طول فترات التاريخ الإسلامي،
فتكفلوا بعمارتها واصلاحها وترميمها نظرا لكونها مصدرا رئيسيا للمياه في البدع ومشرب لقوافل الحجاج المارة عليها،
وبنيت عليها بيت فيه قناديل معلقة، ولكن هذا الاهتمام تأثر بتوقف حركة الحجاج على طريق الحج المصري لمدة قرنين،
وهي الفترة إلى كانت قوافل الحجاج تسير فيها إلى ميناء عيذاب لجنوب مصر، لتعبر إلى جدة بحرا،
وبعد ذلك عاد الاهتمام بعودة قوافل الحج على الطريق المصري البري،
ويبدو أن البئر بعد هجرها وتحول الماء بها إلى الملوحة في تاريخ متأخر دخلت في ملكية رجل من اهل البدع يسمى السعيدني فنسبت اليه،
وهو الاسم الذي تشتهر به في الوقت الحاضر.
ومن ضمن المواقع المهمة في البدع أيضا يوجد البرج،
وهو موقع مهم يقع شمال بئر السعيدني على هضبة مرتفعة
وتوجد به تحسينات تعتقد انها كانت لحماية البئر من أي عبث حيث انها تشكل المصدر الاساس للبدع في تلك الفترة
وينتشر على سطح هذا الموقع كسر من الفخار المديني وفخار العصور الإسلامية ويبدو أن هذا الموقع نقطة دفاعية حصينة بالبدع على مر العصور.
المدينة الإسلامية «الملقطة»وتقع المدينة الإسلامية بمنطقة البدع على الضفة الشرقية لوادي عفال، مقابل المدينة النبطية التي تقع على الضفة الغربية،
ويضم الموقع بقايا مدينة إسلامية تمتد على مساحة نصف كيلو متر مربع، وهذا ما بقي من المدينة حيث اقتطعت المزارع بعد ذلك جانبا كبيرا من المدينة الإسلامية،
ويظهر في الموقع امتدادات لجدران مبنية من اللبن على اساس حجري،
وآثار لبركة مربعة.
وكذلك تنتشر في الموقع انواع من كسر الاواني الزجاجية والفخارية الإسلامية
ومن كل ما عثر عليه من الآثار المعمارية والمعلومات التاريخية فإنه يمكن ارجاع تاريخ المدينة إلى الفترة من القرن الاول إلى القرن الخامس الهجري.
ـــــــــــــــــ
وجاء ذكر مدين ونبيها وأهلها وأرضها ومائها في عدة مواضع في
القرآن الكريم ترد في احدى عشرة سورة.
كشفت المعلومات الواردة في القرآن الكريم عن الثراء الفاحش الذي كان المجتمع المديني ينعم به،
بل تحدث القرآن الكريم عن أنهم كانوا لا يوفون المكيال والميزان، وأنهم كانوا يبخسون الناس أشياءهم،
ويفسدون في الأرض. فما جاء في القرآن يدل على أن هناك أسواقاً وأن هناك بيعاً وشراء. وهناك قطع طريق وإفساد واستغلال للمشتري وبخس للبائع.
وتذكر بعض الكتب أن أرض مدين من أهم مراكز استخراج المعادن من المناجم العديدة التي تحتضنها أراضيها.
ومن أهم تلك المعادن الذهب والفضة والنحاس والقصدير والرصاص والحديد.
كما اشتهرت أرضهم بالأحجار الثمينة مثل الفيروز والكوارتز والصوان.
ـــــــــ
مغاير الكفاراطلق سكان البدع قديما اسم مغاير الكفار على منطقة تقع على سطح هضبة البرج على الضفة الشرقية لوادي عفال،
بين بئر السعيدني والديسة،
وتوجد في هذا الموقع مغارات وكهوف نتجت عن استخراج الجص من هذا المكان الذي يلاحظ فيه وجود أفران لحرق الجص،
وعلى ما يبدو انه تم تصنيع الجص في هذا الموقع في العصور الإسلامية المبكرة وما قبل الإسلام، وتبدو تضاريس سطحه غير طبيعية،
فهي مقلوبة بفعل النشاط البشري عبر القرون،
لذلك اعتقد بعض سكان البدع أن هذا الموقع عذب فيه الكفار المؤمنين،
وان المغارات والكهوف الموجودة في الموقع الناتجة عن استخراج الجص والاحجار الجيرية مغارات للكفار لذلك سمي الموقع بهذا الاسم.
غابة الديسةتقع الديسة على الضفة الشرقية لوادي عفال شرق موقع الملقطة وهي عبارة عن غابه من اشجار الدوم والطرفاء والطلح والسمر والسلم والنخيل،
وقد ذكرها الجزيري سنة 955هـ،
حيث قال وبها شجر المقل (الدوم) كثير ومن الاحطاب ما لا يقدر قدره وكانت الديسة طوال العصر العثماني
وحتى عهد قريب منزلا لجماعات من المساعيد يبنون فيها بيوتا بسيطة من الحجر والطين وعششا من سعف النخيل هذا ما ورد في كتاب البدع تاريخها
وآثارها تأليف عبدالرحمن الطيب الانصاري والدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد ومجموعة من المؤلفين
وتتميز هذه المواقع الأثرية المنتشرة في محافظة البدع بأنها توضح استمرارية الاستقرار في جميع العصور التي شهدتها هذه المنطقة،
ولكن هذه الآثار تأثرت بعوامل الطبيعة وعبث كثير من الناس الذين لا يقدرون قيمة هذا الارث التاريخي.
ولكن الحكومة ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والآثار اوقفت هذا العبث وعملت على حمايتها واصلاحها وترميمها،
وانشئت الاسوار الشائكة حولها،
.
الموقع الأثري الوحيد في المملكة الذي اقترن بأمة مدين من خلال الدراسات الآثارية،
بل حدد كعاصمة لها هو موقع قُريِّة، ومع ذلك فإن المواقع،
تيماء ودادان واالبدع ومواقع أخرى جاء ذكرها في تقارير المسح الأثري الشامل لآثار المملكة العربية السعودية تعود إلى تلك الفترة في مرحلة من
مراحل استيطانها، وحيث إن المسألة لا تزال قيد البحث، نقتصر هنا على ما جاء عن موقع قُريِّة في التقارير والأبحاث الآثارية نظراً لكونه الموقع الأثري الوحيد
في المملكة الذي خضعت مادته الآثارية المدينية وبخاصة الأواني الفخارية للبحث،
فطبقاً لما ذكر هاري سنت جون فيلبي فإن موقع قُريِّة ذُكر لأول مرة عام 1848م بواسطة الرحالة السويدي،
والين، الذي ذكر الموقع،
ولكنه لم يزره بسبب عدم وجود من يرافقه إليه من سكان تبوك آنذاك،
لأوربي الثاني الذي ذكر الموقع هو تشارلز داوتي في نوفمبر عام 1876م
الذي أخبره مرافقه عندما كان يجتاز خط القطار بين محطتي حسمي ومادبا إلى الشمال من تبوك عن مستوطنة قُريِّة الواقعة على بعد عشرة أميال باتجاه الغرب.